مقدمة
 
 

وردتْ مادَّة (عجم) التي اشتُقَّتْ منها كلمةُ (الأعجمي) في القرآن، حيثُ ذُكرتْ هذه الكلمةُ أكثرَ من مرةٍ فيه.

فما هو المعنى الأَصليُّ الصحيحُ لمادة (عَجَم)؟ وما الفرقُ بين العَجَم والأَعْجَم؟ وما الفرقُ بين العَجَميّ والأَعْجَمي؟ وفي أيِّ سياقٍ وردَتْ كلمةُ (الأعجمي) في القرآن؟ وهل هي للإثبات أو للنفي؟.

سننظرُ في معنى مادةِ (عَجَم) واشتقاقاتِها في اللغةِ أَوّلاً، ثم ننتقلُ للنظرِ في الآياتِ التي أَوردتْ كلمةَ (أَعجمي)، لنعرف معناها في القرآن، بعون الله.

(الأَعجمي) في اللغة:

الجَذرُ الثلاثي لكلمةِ (أَعجمي) هو (عَجَم).

قال ابنُ فارس في مقاييس اللغة: « العينُ والجيمُ والميمُ ثلاثةُ أُصول: أَحدُها يدلُّ على سكوتٍ وصَمت، والآخر يدلُّ على صلابةٍ وشدَّة، والآخرُ على عَضٍّ ومَذاقة.

فالرجلُ الذي لا يُفصحُ: أَعجم، والمرأةُ التي لا تُفصحُ: عجماءُ بَيِّنَةُ العُجمة. ويقالُ للصبيِّ ما دام لا يتكلمُ ولا يُفصح: صبيٌّ أَعجم.

والعَجَم: الذين ليسوا من العرب، وكأنَّ العربَ لَما لم يفهموا عنهم سَمّوهم عَجَماً.

ويُقال: الأَعجميُّ: الذي لا يُفصح وإنْ كان نازلاً بالبادية. وهذا عندنا غَلَط! وما نعلمُ أَحداً سمّى أحداً من سكانِ البادية أعجمياً، كما لا يُسمونَه عَجَمِياً. ولعلَّ صاحبَ هذا القولِ أَرادَ الأَعجم فقال: الأَعجمي.

والعَجماءُ: البهيمة؛ سُميتْ عَجْماء لأَنها لا تتكلم.وكذلك كلُّ مَنْ لم يَقْدِرْ على الكلامِ فهو أَعْجَم ومُسْتَعْجَم ...».

والعُجْمةُ عندَ ابن فارس: عدمُ الإفصاح والبيان. والعَجَمُ عندَه مقابلَ العرب، والأَعجمُ والأَعجميُّ بمعنى واحد. وهو الذي لا يُفصحُ في كلامه.

وقال الراغب: «العُجْمَةُ: خلافُ الإِبانة. والإعجام: الإبهام... والعَجَم: خلافُ العَرَب. والعَجَميُّ منسوبٌ إلى العَجَم... والأَعْجَم: مَنْ في لسانِه عُجْمة، عربياً كان أو غيرَ عربي، اعتباراً بقلَّةِ فهمهم عن العَجَم... والأعجميُّ منسوبٌ إلى الأَعجم.

وأعجمتُ الكلامَ ضدُّ أَعربْتُه، وأَعجمتُ الكتابةَ: أَزَلْتُ عجمَتَها.

وحروف المعجم هي الحروفُ المقطَّعة [أ، ب، ت، ث...]، ومعنى كونِها أَعجميةٌ: لأَنها حروفٌ مقطَّعةٌ متجردةٌ، لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه الحروفُ الموصولةُ التي تتركبُ منها الكلمات».

يتفق الراغبُ مع ابنِ فارس في أنَّ العُجمةَ خلافُ الإِبانةِ والإِفصاح، والعَجَمَ: هم غيرُ العرب الذين لا يُفصحون عندما يتكلَّمون، والأَعجمُ: الذي في لسانِه عدمُ الإِبانة، سواء كان عربيّاً أم عجميّاً في النَّسَب.

ومعنى كلامِ الراغبِ أنَّ العجمةَ في اللسانِ والنطقِ والتعبير، وليستْ جنساً أو نَسَباً أو قوماً، وأُطلقتْ على غيرِ العربِ لأنهم لا يُفصحونَ بالعربيةِ عندما يتكلَّمون.

ولا يخرجُ ما قالَه السمينُ الحلبيُّ عن ما قالَه الراغب، لأنَّ كتابَه (عمدةَ الحفاظ) هو صورةٌ موسَّعةٌ لمفرداتِ الراغب، وقد يُضيفُ السمينُ بعضَ الشواهدِ والأمثلةِ والفوائد، وما أَضافَه قوله: «... والأَعجميُّ منسوبٌ إلى العَجَم، فصيحاً كان أو غيرَ فصيح... والعَجَمُ: الجيلُ المعروف، مقابلَ العرب، من أيِّ جنسٍ كان، وغَلَبَ في العرفِ على أَبناءِ فارس».

ولخَّصَ الفيروز آبادي الفرقَ بين العَجَمي والأَعْجَمي، فقال: «الأَعْجَمُ والأَعْجَمِيُّ: مَنْ لا يُفصح، عربيّاً كان أو غير عربي... والعَجَمِيُّ: مَنْ جِنْسُه العَجَمُ، وإنْ أفصح. وأعجمَ الكلام: ذهبَ به إلى العُجمة، فصار غير واضح... وأَعجمَ الكتاب: نَقَطَه وأَبانَه وأَزالَ عجمتَه».

ونُضيف إلى ما مضى هذه المعاني والاستعمالات للكلمةِ من لسانِ العرب: «العُجْمُ والعَجَمُ: خلافُ العُرْبِ والعَرَبِ. يَعتقبُ هذان المثالان كثيراً، فيقال: عَجَمِي، وجمعُه عَجَم، وخلافُه: عَرَبي وجمعُهُ عَرَب. ورجلٌ أَعْجَم، وقومٌ أَعجَم. مثل اليهود والمجوس، جمع اليهوديّ والمجوسي.

قال أبو إسحاق: الأَعجمُ: الذي لا يُفصحُ ولا يُبَيِّنُ كلامَه، وإنْ كان عربيَّ النّسَب،كزياد الأَعجم، وكذلك الأعجمي... أما العَجَمِيُّ: فهو الذي مِنْ جنسِ العَجَم، أَفصحَ أمْ لم يُفصح... ورجلٌ أعجمي: إذا كان في لسانِه عُجْمة، وإنْ أفصحَ بالعَجَمِيّة... وكلامٌ أَعْجَمِي: بَيِّنُ العُجْمَة... ويُنسبُ إلى الأَعجم الذي في لسانه عُجْمة، فيقال:لسانٌ أَعجمي، وكتابٌ أَعجمي، ولا يُقال: رجلٌ أَعجمي، فتنسبُ الرجلَ إلى نفسه.

ويقال: أَفصحَ الأَعجميُّ: أيْ تكلمَ بالعربية بعد أن كان أَعجمياً، والرجلُ العَجَمِيّ: إذا كان من العجم، فصيحاً كانَ أو غيرَ فصيح».

والخلاصةُ: هي أنَّ (العَجَم) وصفٌ يُطلقُ على كلِّ الأجناسِ من غيرِ العرب، سواء كانوا فُرْساً أو روماً أو غيرهم. ووصِفوا بذلك لأَنهم لا يُفصحون ولا يُفَهِّمون ولا يُبَيِّنون كلامَهم باللغة العربية، مع أنهم قد يكونون فصحاءَ في لغاتِهم، لكن المعتبر هو الكلامُ العربيُّ الفصيحُ المبين، فإنْ تعلَّمَ الرجلُ العجميُّ اللغةَ العربيةَ وأتقنها يبقى عَجَمياً من حيث النَّسَب، لكنَّه يكون عربيَّ اللغةِ واللسان!.

أما العُجْمَةُ فإنها في اللسان، وهي تقومُ على عدمِ الإِفصاحِ والبيانِ باللغة العربية، ويوصَفُ بها كلُّ إنسان لا يُفصحُ ولا يُبينُ عندما يتكلم، سواءٌ كانَ عربياً أم عَجَمياً، فيقال: هذا إنسانٌ أَعجميُّ اللسانِ والكلامِ، مع أنه قد يكونُ عربيَّ النَّسب والأَصل.

فالأَعجميّ وصفٌ يطلقُ على اللسانِ والكلامِ والتعبير، ولا يُطلق على الإنسان، فقد يكونُ الرجلُ عربياً في النَّسب لكنه أَعجميٌّ في التعبير! وقد يكونُ الرجلُ عجميّاً في النسب، لكنه ليس أَعجمياً، وإنما هو عربيٌّ في التعبير!!.

* (الأعجمي) في القرآن:

لم يرد من مادة (عَجَم) في القرآن إلا كلمة (أَعجمي)، وقد وردتْ ثلاثَ مراتٍ في صيغةِ المفرد، ومرةً في صيغةِ الجمع. ولننظر في سياقِ الآيات التي أوردت تلك الكلمة:

الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل:103].

تردُّ الآيةُ على المشركين الذين زعموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من رجلٍ غير عربي، فغيرُ العربي هو الذي أَلّفَ القرآن، وعلَّمه للنبي صلى الله عليه وسلم. وتَدعوهم الآية إلى أن يُفكِّروا بعقولهم: الرجل الذي نَسبوا له القرآن لسانُه أَعجمي، والقرآنُ بلسانٍ عربيٍّ معجزٍ فصيح، مُبينٍ واضح، فكيف يقولون بذلك؟! كيف يقدرُ ذو اللسانِ الأَعجميِّ الذي لا يعرفُ من اللغة العربية إلا بعض الكلماتِ على تأليف كلامٍ عربيٍّ فصيحٍ فوقَ مستواهم؟.

والرجلُ ذو اللسانِ الأَعجمي الذي نسبوا له تأليف القرآنِ؛ عبدٌ روميٌّ كان يعملُ في مكة، واختلفوا في اسمه، فقيل اسمه جَبْر.

روى الطبري عن ابن إسحاق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس عند المروة إلى غلام ٍ نصرانيّ، يقال له:جَبر، عبدٌ لبني بَيَاضَةَ الحَضْرَميّ فكانوا يقولون: والله ما يُعَلِّمُ محمداً كثيراً مما يأتي به إلا جَبْرٌ النصرانيُّ غلامُ الحضرمي. فأنزل الله قوله تعالى في الردِّ عليهم: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾[النحل:103].

وقيل: كان اسم الرجل بلعام، وقيلَ: كان اسمُه يسار، وقيل غير ذلك.

لقد جعلت الآية (الأَعجمية) صفةً للسانِ الرجل: ﴿ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾.

الرجلُ عَجَميُّ النَّسب، لأنه روميٌّ وليسَ عربياً، وبما أنه عجميٌّ فقد كان لسانُه أَعجمياً، لا يُفصحُ ولايُبين، فكيف ينطقُ بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!.

الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِين /198فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾[الشعراء:198-199].

(الأَعجمين): جمع مذكَّر سالم مجرور، وعلامةُ جَرِّه الياء، وهو مضافٌ إليه. يخبر الله أنه لو نَزَّل القرآنَ على شخص من (الأَعجمين)، وجاءَ هذا الشخص وتلا القرآنَ على مشركي العرب، فإنهم لن يؤمنوا به، وقد نَزَّلَ الله القرآن على ابنِهم العربيِّ محمد صلى الله عليه وسلم وقرأَه عليهم، فما آمنوا به، فالكفار معاندون، لا يؤمنون بأنَّ القرآنَ كلامُ الله، سواءٌ قرأه عليهم عربيٌّ مثلُهم، أو شخصٌ من الأَعجمين.

وهذه الآية في سياقِ إثبات أنَّ القرآن كلام الله، وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرَّحَتْ آياتٌ قبلَها بذلك؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ192/ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ193/عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ194/بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ195/وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ196/أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ197/وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ 198/فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ199/كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ200/لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[الشعراء:192- 201].

واختلفوا في (الأعجمين) المذكورة في الآية: فقال بعضهم: هي جمعُ (الأَعجميّ)، ولكن هذا الجمعَ مخفَّف، لأنَّ الأَصلَ أن يكون بالياء المشدَّدة: الأَعجميّ، الأَعجميّون. مثل: الأَشعريّ، جمعه: الأَشعريّون. بالياء المشدَّدة.

والأَعجميّ: هو الذي في لسانه عُجْمة تمنعه من الإِفصاحِ والإِبانة.

وقال آخرون: (الأعجمين) جمعُ (أَعجم) بدون ياء النِّسبة. والأَعجمُ: هو الذي لا يفصحُ في كلامه، سواءٌ كان من العَجَم أم من العرب.

والقولان متقاربان، لأَنَّ (الأَعجميَّ) قريبٌ من (الأَعْجَم)، أُدخلتْ عليه الياء لزيادة التوكيد.

قال الزمخشري: «الأَعْجَمُ: الذي لا يُفصح، وفي لسانه عُجْمةٌ واستعجام. والأَعجميُّ مثلُه، إلا أنَّ فيه زيادة ياء النِّسبة لزيادة التوكيد، ولما كان من يتكلم بلسانٍ غير لسانِهم لا يَفقهون كلامَه، قالوا له: أَعْجَم وأَعْجَمي.

شبَّهوه بمن لا يُفصحُ ولا يُبين... وقالوا لكل ذي صوتٍ من البهائم والطيور وغيرها: أَعْجم».

والراجحُ أنَّ (الأَعجمين) جمعُ (أَعْجَم)، وهو الذي في لسانِه عُجْمَة تمنَعُه من الإِفصاحِ والبيانِ في كلامه، وهذا الأَعْجَمُ - أو الأَعجميّ- قد يكون عربياً من حيث النَّسَب، وقد يكونُ عَجَميّاً من الفرسِ أو الروم أو غيرهم.

فلو نَزَّلَ اللهُهذا القرآنَ على عَجَمِيٍّ أَعَجم لا يُحسنُ الكلامَ في العربية، أو نَزَّلَه على عربيٍّ أَعجم، عنده عَجْمَةٌ في لسانِه تمنعُه من الإفصاح، لما آمنوا به، علماً أنَّ الله أنزله على عربيٍّ فصيحٍ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما آمنوا به.

الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت:44].

تردُّ الآية على شبهات الكفار حول القرآن، ووصف الله القرآن في آية قبلها بأنه كتاب ٌ عزيز؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ41/لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41- 42].

وهذا الكلام عن القرآن مرتبطٌ بكلام الآيات الأُولى من السورة عن القرآن؛ قال تعالى: ﴿حم1/تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ2/كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 1__3].

لقد وصف اللهُ القرآنَ بأنَّه قرآنٌ عربيٌّ مبين، فُصِّلَتْ آياته ووُضِّحت وبُيِّنت، فأصبحت واضحةً بينةً مفهومة، وأنزلَه الله على أفصحِ العرب صلى الله عليه وسلم، وقرأه عليه الصلاة والسلام على المشركين، لكنّهم كفروا به وكذّبوه، من باب العناد والاستكبار، مع أنهم فهموا هذا القرآن المفصَّل المبين.

وشهدَ الله للقرآن بأنه كتابٌ عزيز، تنزيلٌ من الله الحكيم الحميد، ولذلك كان كلُّه حقاً، لا يتطرقُ إليه الباطل، لا من بين يديه ولا من خلفِه.

وقدَّمت الآية دليلاً آخرَ على عنادِ الكفارِ واستكبارِهم، وهذا الدليلُ نظريٌّ افتراضي، فلو جعل الله القرآن قرآناً أَعجمياً، وأَنزلَه بلغةٍ أَعجميةٍ غير عربية، كالفارسية أو اليونانية، وأَنزلَه على أَفصحِ العرب محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأهُ النبيُّ العربيُّ الفصيحُ صلى الله عليه وسلم على العربِ الفصحاء باللغةِ الأَعجمية، فسوفُ يعترضون على ذلك، ويقولون: كيف يَنزلُ القرآنُ الأَعجميُّ على رسولٍ عربيٍّ، يُخاطب به قوماً عرباً؟! وهم لا يَفهمون من هذه اللغة الأعجمية شيئاً؟ وهَلَّا فُصِّلَتْ آياتُه ووُضِّحَتْ وبُيِّنَت، وهي لن تُفَصَّلَ إلا إذا كانت بلسانٍ عربيٍّ مبين.

وكأنَّ الآيةَ تريدُ أنْ تقولَ لهم: لو كانَ القرآنُ أَعجمياً لطلبتُم أنْ يكون عربياً مفصّلاً واضحاً، وقد أَنزلْناه عربياً مفصَّلاً واضحاً، فلماذا لم تُؤمِنوا به؟! إنه لا يمنعُكُم من الإيمان إلا العنادُ والاستكبار.

قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى:﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: 44]: «المعنى: لو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لقال قومُك من قريش: يا محمد! هلّا بُيِّنَتْ أدلَّتُه وآياتُه، فنفقَهه ونعلم ما هو وما فيه، ولقالوا منكرين: أَأَعجميٌّ هذا القرآن ولسانُ الذي أُنزلَ إليه عربي؟.

وقال سعيد بن جبير:﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾: لو كان القرآنُ أعجمياً لقالوا: القرآنُ أَعجمي. ومحمدٌ عربيّ!.

وقالَ السُّدّي: لقالوا: هلّا بُيِّنَتْ آياتُه؛ أَأَعجمي وعربي، ونحنُ قومٌ عرب ما لنا وللعُجْمَة»؟!.

و﴿لَوْ﴾ في قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾: حرف شرط، وجملة ﴿جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾: فعل الشرط، وجملة:﴿لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾: جواب الشرط.

ومعلومٌ أن ﴿لو﴾ حرف امتناع. أي: أن الله لم ينزل القرآنَ أعجمياً، ولذلك لم يقل الكفارُ لو فُصِّلَتْ آياتُه!.

و﴿لولا﴾ في الآية ليستْ حرفَ شرط، لأنها دخلت على جملةٍ فعلية، فهي حرفُ حَثٍّ بمعنى (هَلَّا). أي: هلَّا كانت آياتُ هذا القرآن الأعجمي مفصَّلَةَ مبيَّنَةً.

وفي قوله:﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾هَمْزتان: الهمزة الأولى للاستفهام، والهمزة الثانية: همزة كلمة (أَعجمي)، والاستفهامُ إنكاري.

و(أَعجمي) خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديره: ألقرآن أَعجمي...؟ و(عربيٌّ) خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديرُه: والرسولُ عربي. فيكون معنى الإنكار: كيف يكونُ القرآنُ بلغةٍ أَعجمية، والرسولُ يتكلمُ بلغةٍ عربية؟ وهلّا كان التوافقُ بين لغة القرآن ولسانِ الرسول، وهلّا كان القرآن عربياً مفصّلاً لأنَّ الرسولَ عربي!.

وخلاصةُ الكلامِ عن (الأعجمي) في القرآن: أنها وردَتْ أربعَ مراتٍ في ثلاثِ سور مكية.

- في سورة النحل جاءَتْ وصفاً للسانِ رجلٍ عَجَميٍّ روميٍّ في مكة، لا يمكن أن يتكلَّمَ بلسانٍ عربيٍّ مبين.

- وفي سورة الشعراء جاءت وصفاً لأَعاجم غير عرب، وفي سياق النفي، فلو أنزل الله قرآناً عربياً فصيحاً على رجلٍ أعجمٍ غي عربي، وقرأَه على العرب، لما آمنوا به؛ لأنهم سيستغربون أنْ يتكلم رجلٌ أعجمٌ، لسانُه أعجمي، بقرآنٍ عربي.

- وفي سورة فصلت جاءت الكلمة وصفاً لقرآنٍ لم يَنزل في عالَم الواقع، فلو أنزل الله قرآناً أَعجميَّ اللغةِ واللسانِ، على عربيٍّ فصيحِ البيان، لاعترض الكفَّارُ وقالوا: كيف يكونُ قرآن أعجميٌّ غير مفصَّل، والرسولُ الذي يبلِّغُه عربيٌّ فصيحُ اللسان؟!.

أي: أنَّ (الأَعجمية) المذكورة في القرآن أَعجميةُ لسان، وأَعجميةُ لغةٍ وبيان، وأعجميةُ شخصٍ وإنسان، وكلّها في سياقتنزيهِ القرآنِ عن الأَعجمية، وتقريرِ عربيتِه في لغتِه وبيانِه وتعبيره!.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الأعلام الأعجمية في القرآن الكريم: د. صلاح الخالدي.

- الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي.

- حجة القراءات: ابن زنجلة.

- البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي.

- معجم لسان العرب: ابن منظور.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم