حِفْظُ الله تعالى لهذا القرآن في جميع تنزُّلاته ومن جميع جوانبه وحيثيَّاته
 
 

مما ينبغي على المسلمين اعتقاده اعتقاداً جازماً أن الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه حِفْظاً محيطاً بجميع جوانبه في جميع أحواله، وان الله أنزله محفوظاً من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وانه لا يأتيهِ الباطِلُ من بين يدَيه ولا من خلفه إلى يوم الدين، وذلك ثابتٌ بالأدلة القطعية اليقينية وسأشير بإيجاز إلى المراحل التي حفظ الله القرآن فيها:

1- المرحلة الأولى: حِفْظُ الله القرآن في اللوح المحفوظ:

قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ21/85فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ [البروج: 22] قرئت لفظة ﴿محفوظٍ﴾ بالخفض؛ وعلى هذا فهي صفة لقوله ﴿لوحٍ﴾ وهو لوح كتابة القرآن الأولى، وفي هذا تنبيه إلى أن ما حواه هذا اللوح وكُتِبَ فيه فهو محفوظ، وهناك قراءة أخرى متواترة لهذه اللفظة بالرفع، وعلى هذا فهي صفة لكلمة ﴿قُرْءَانٌ﴾ المرفوعة، وفي هذا تصريح بأن القرآن محفوظ في اللوح.

وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]

2- المرحلة الثانية: حِفْظ الله تعالى هذا القرآن في طريق نزوله على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- :

قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا26/72إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26- 27]

أيْ: يَنزل جبريل بالقرآن، ومعه ملائكة يحرسون ما نزل به، ويحيطون من بين يدي الرسول ومن خلفه رَصَداً، كما ورد ذلك عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما.

وقال تعالى مخبراً عن الجن: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾ [الجن: 8].

الله أكبر!! لنتأمل معاً ﴿حَرَسًا شَدِيدًا﴾ أي من الملائكة حتى لا يُسْتَرَقَ حرف واحد من القرآن الكريم أثناء نزوله، و﴿وَشُهُبًا﴾ نارية لتحرق كل من يحاول ذلك ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾ أي كان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بدء نزول القرآن عليه ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ﴾ بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونَزَل القرآن ﴿يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا﴾.

3- المرحلة الثالثة: حِفْظُ الله تعالى القرآنَ في قَلْبِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجَمْعُهُ في صَدْرِهِ الشريف.

روى البخاريُّ في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ16/75إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ17/75فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ18/75ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 16- 19] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي يغالج من التنزيل شِدّةً، وكان مما يُحَرِّكُ لسانه وشفتَيه، فيشتد ذلك عليه، فأنزل الله تعالى الآية.

وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32] فالقرآن محفوظ في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه بحِفْظ الله عز وَجَلَّ له، وقد تَكَفَّلَ الله بذلك.

4- المرحلة الرابعة: حِفْظُ الله تعالى القرآن في حال تبلغيه صلى الله عليه وسلم وتلاوته على العباد سالماً من مُداخلةٍ فيه، أو مُشاغبةٍ عليه.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 51] يخبرنا الله تعالى بأنه تكفل بأن يوصل للناس هذا القرآن كما أنزل وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67] فمن شرط نبوته أن يُبلِّغ القرآن كاملاً.

وقال سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى3/53إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3- 4] وقال: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 151].

هذه النصوص تدلُّ دلالة قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغَ القرآن كما أنزِلَ عليه، فلم ينقصْ منه حرفاً ولم يزدْ عليه حرفاً، وهذا مما يجب على كل مسلم أن يعتقده.

5- المرحلة الخامسة: حِفْظُ الله هذا القرآن بعد تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، وإبقاؤه مَصوناً محفوظاً إلى يوم الدين.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] وهذا الحِفْظُ يستلزم ثلاثة أمور:

الأمر الأول: حِفْظُ حروفه وكلماته كاملة بنصوصها المنزلَة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن طريق التواتر القَطْعي إلى يوم القيامة.

الأمر الثاني: حِفْظُ بيان هذا القرآن وهو الحديث النبوي الشريف.

الأمر الثالث: حٍفْظُ حَمَلَةِ القرآن الكريم، وإبقاء مَنْ يُبلِّغُه حتى يأتي أمر الله تعالى، وذلك بأن يختار الله من عباده من يصطفيهم لحمل كتابه حِفْظاً في صدورهم، واتقاناً في نطقه وترتيله كما أنزل.

فالقرآن الكريم في أطواره الخمسة التي أشرتُ إليها محفوظ من التبديل والتحريف، محميٌّ من الزيادة أو النقصان ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42].فلقد هيأ الله من اصطفاه من عباده لحفظ كتابه من الصحابة رضي الله عنه، ثم من التابعين، وهكذا... في كل عصر، وفي كل قطر.

ألا فلْيهنأْ حَمَلَةُ القرآن الكريم بهذه الخاصيّة التي أكرمهم الله بها، وعليهم أن يَعْلَموا عِظَمَ هذه الأمانة التي حُمِّلوها، وأن يكونوا على مستوى المسؤولية.

 

  • المصدر:

-          كيف تحفظ القرآن الكريم: د. يحيى الغوثاني.

دروس في ترتيل القرآن الكريم: الشيخ عبدالقادر شيخ الزور.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم