شبهة: الاعتراض على نزول القرآن مفرقاً

هذا السؤال أو التساؤل قديم سأله المعارضون للرسول صلى الله عليه وسلم من باب المعارضة له في شيء ما، ولو نزل جملة لقالوا لما لم ينزل مفرقا ؟

* رد هذا الاعتراض:

إن سؤالهم أو اعتراضهم هذا أفادنا كثيراً في معرفة الحكمة من نزول القرآن مفرقاً حيث ذكر الله اعتراضهم في القرآن :

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } الفرقان

فرد الله عليهم في الآية نفسها

{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)} الفرقان

ثم تأتي الآية الأخرى فتسوق لنا حكمة غير الأولى:
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)} الاسراء
ومعنى فرقناه: جعلنا نزوله مفرقا منجما.

ما أطيب الأمن والراحة النفسية للإنسان. يتعهده حاميه وراعيه الفينة بعد الفينة، ويزوده كلما زاره بطاقة تقوية، وتشد أزره وتحميه!..
هذا شيء نحسه من واقع الحياة التي نعيشها والطبيعة التي تحكمنا، والقرآن هدى وشفاء، تشريع وتكليف، نزل على الرسول ليقود على هديه البشر، ويداوي به أمراضهم الاجتماعية، ويمدهم بطاقة مادية وروحية، وهو ليس بالقصير الذي يمكن قراءته في جلسة، أو حفظه في يوم، ولهذا كان من حكمة الله أن ينزل على الرسول عليه الصلاة والسلام مفرقا، حتى يتمكن عليه الصلاة والسلام هو وصحابته من حفظه؛ لأن الرسول وإن كان قد حرص على أن يأمر بكتابته، إلا أن العرب تغلب عليهم الأمية آنذاك، صدورهم هي كتبهم فهم يعتمدون على الحفظ، ولذلك، برعوا فيه، ولابد أن يكون القرآن أمره كذلك، يعتمد فيه على الحفظ، حتى وإن كتب على حجارة ملساء أو عظام مفرطحة، أو غير ذلك مما يستطيعون الكتابة عليه؛ لأن الورق لم يكن متوفرا لديهم بالصورة التي نراها عندنا، أو بالصورة التي تمكنهم من كتابة القرآن كله عليه..
فكيف إذن يمكنهم حفظه لو نزل دفعة واحدة؟ هذا أمر عسير، ومن المتعذر على الإنسان أن يجد له حلا.. والله قد أخذ عباده بالتيسير عليهم.
ولو نزل القرآن جملة واحدة لنزل فيه الأمر بالعقائد والتشريعات كلها دفعة واحدة، وكان القوم سيعجزون وهم في أول أمرهم بالإسلام عن حفظه وتطبيق أحكامه.. وهم في حاجة إلى أخذهم بالرفق والتدريج، وقد رأينا كيف عالج القرآن أمرهم في شرب الخمر بالتدريج، ولو كانت الحكمة في غير التدريج لكان ما كان.. ولكن الله فعل ما تقتضيه حكمته القائمة على علمه بالنفوس.

فالإنسان يولد ويشب حتى يبلغ فيكلف بكل ما في القرآن، ولكنه مسلم وابن لمسلم، وشب وتربى في جو إسلامي وتعود في صغره على آداب الإسلام وتشريعاته، فلا يصعب عليه القيام بعد ذلك بتكاليفه.. فالأمر يختلف عمن ندعوه لينسلخ من شركه في بدء الدعوة لينضم لزمرة المؤمنين والدعوة غريبة ولها أعداؤها آنذاك.. فلا بد من التدرج في التكاليف بما يتناسب وحالة الداخلين الجدد في الإسلام.
وكثيراً ما كان يسأل المؤمنون أو اليهود أو المنافقون أو المشركون، يسألون عن أشياء يريدون فهمها أو عن أشياء يريدون تعجيز الرسول وإظهاره بمظهر عدم العارف ليضعفوا من شخصيته ومهابته، وكان نزول القرآن مفرقا يتيح للرسول أن يتلقى الرد عليهم من جبريل بما يريد الله، ولذلك تجد كثيراً في القرآن (يسألونك) أو (يسألك الناس) وتجد الرد بعد ذلك:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} سورة البقرة

{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} سورةالبقرة

{يَسئَلُكَ النّاسُ عَنِ الساعةِ قُل إنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ} سورة الأحزاب
وغير ذلك من الأسئلة التي وجهت للرسول في أوقات متباعدة، ونزل القرآن للرد عليها، فهل كان يتسنى الرد عليها لو أن القرآن كان قد نزل قبل ذلك بسنوات دفعة واحدة؟.
وهكذا تتجمع هذه الحكم والأسباب التي نستظهرها حسب علمنا وإدراكنا لتجعل من نزول القرآن مفرقا هو عين الحق والصواب ممن هو أدرى من الخلق جميعاً بالحق والصواب..
ولكن مما ينبغي معرفته مع ذلك أنه ليس معنى نزوله مفرقا أن كل آية منه نزلت على دفعة، بل معنى نزوله مفرقا أن نزوله كان على دفعات وأوقات استمرت من بدء البعثة، حتى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام أي مدة ثلاث وعشرين سنة.. فقد ينزل جبريل بآية، وقد ينزل بآيات، وقد ينزل بسورة صغيرة، وقد ينزل بسورة كبيرة كالأنعام مرة واحدة.
ومن السور التي نزلت دفعة واحدة: الفاتحة، الإخلاص، المعوذتان، المسد، الكوثر، البينة، الأنعام ^.
أما أغلبية سور القرآن فقد نزلت على دفعات.. وليس معنى ذلك أن النزول كان بالترتيب في السورة يعني تنزل الآيات الخاصة بسورة البقرة مثلاً على دفعات، ولا ينزل غيرها، ثم يبدأ الوحي في سورة أخرى فتنزل آياتها على دفعات، ثم تبدأ سورة أخرى وهكذا.. بل كانت الآيات تنزل، وجبريل يرشد الرسول الى أن هذه الآيات توضع في سورة البقرة مثلا قبل آية كذا أو بعدها.. ثم تنزل آيات أخرى بعد ذلك ويرشد جبريل إلى وضعها مثلا في سورة آل عمران وهكذا.. حتى إذا أتى رمضان من السنة نزل جبريل على الرسول يدارسه ما نزل في السنة الماضية من القرآن بالترتيب الذي أرشد إليه، ولو كان جزءاً من السورة، ثم إذا جاء رمضان آخر نزل جبريل يدارسه ما نزل من أول آية، حتى آخر ما نزل في العام للمدارسة بالترتيب، وهكذا، حتى آخر رمضان من حياة الرسول، وقد كاد القرآن يكتمل، إلا بعض آيات قليلة، فنزل جبريل يدارسه (أي يقرأ على الرسول مرة ويستمع له مرة) ما نزل من القرآن كله من أول آية: (اقرأ باسم ربك) حتى آخر آية نزلت قبل انتهاء هذه المدارسة الأخيرة، بالترتيب الذي عليه القرآن الآن، فيقرأ من سورة البقرة ما نزل ، ومن سورة آل عمران ما نزل.. الخ. وهكذا انضبط أمر القرآن تماماً.
* أهم المصادر والمراجع:

- تفسير ابن كثير: الإمام ابن كثير.
- علوم القرآن: لعبد المنعم النمر.