* آيات من القرآن:
قالوا: إن الرسول عليه
الصلاة والسلام قد أسقط عمداً، أو
نسي آيات من القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك حديث شريف، وآية قرآنية.
ـ أما بالنسبة
للآية القرآنية التي استندوا إليها في تأييد شبهتهم: بأن الرسول عليه الصلاة
والسلام أسقط عمداً، أو نسي
شيئاً من القرآن، فهي قوله تعالى في سورة الأعلى:
{سَنُقْرِئُكَ
فَلَا تَنسَى(6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا
يَخْفَى(7)}
وأصحاب هذه الشبهة
يرون أن ما جاء في الآية يدل بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمداً عليه
الصلاة والسلام قد أسقط عمداً، أو
أنسي آيات لم يتوفر له من يذكره إياها.
ـ أما الحديث الشريف فهو:
((عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة قالت سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية
كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا )).
وفي رواية أخرى
((عن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال يرحمه الله لقد
أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا )).
* رد هذه الشبهة:
أولاً ـ مناقشة
الآية الكريمة:
يرد عليهم: بأن الاستثناء الوارد في الآية بجملة: (إلا ما شاء الله) معناه:
أن عدم نسيان
الرسول عليه الصلاة والسلام هو بفضل
من الله تعالى، ومشيئته، ولا يعني النسيان بذاته.
فقوله تعالى: (إلا ما شاء الله) يعلق وقوع
النسيان على مشيئة الله ، ولم يشأ الله أن ينسى النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً,
فالمشيئة لم تقع، والنسيان لم يقع.
والقاعدة تقول: إن
عدم حصول المعلق عليه، ـ وهو مشيئة الله ـ يستلزم عدم حصول المعلق، وهو النسيان.
ودليل ذلك أن العناية الإلهية، والمشيئة
الربانية، اقتضتا جمع القرآن، ومن ثم بيانه، وتبليغه على لسان الرسول عليه الصلاة
والسلام , وهذا يتنافى مع وقوع النسيان مصداق قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)} القيامة
ومن هنا يبقى
الاستثناء الوارد في الآية استثناءً صورياً، وليس حقيقياً، فالله تعالى وعد رسوله
أن يقرئه القرآن فلا ينساه، وعلى وجه التأييد.
وقد قال الإمام محمد عبده في تفسيره للاستثناء الوارد في الآية : ولما كان الوعد
على وجه اللزوم، ربما يُتوهم أن ذلك خارج عن إرادته (جل شأنه) , فجاء بالاستثناء
في قوله: (إلا ما شاء الله)، فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئاً، لم يعجزه ذلك، فالقصد
هو نفي النسيان رأساً.
وعلى ذلك جاء
الاستثناء في قوله تعالى في سورة هود: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا
شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ(108)}
أي غير مقطوع، فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه
على أن ذلك التأبيد والتخليد إنما هو بكرم من الله وفضل منه لا بإيجاب وإلزام
عليه، ولو أراد الله عكس ذلك، أي أن يأخذ ما وهب، لم يمنعه من ذلك مانع .
ثانياً ـ مناقشة
الحديث الشريف :
أ ـ إن هذا الحديث لا يصلح حجة، ولا يستقيم سنداً في تأييد هذه الشبهة، وإنما هو
حجة عليهم. فإن كلمة «أسقطتهن» التي وردت في الحديث معناها الإسقاط نسياناً، وليس
عمداً. وما يقوي معنى النسيان، ويؤكده هو مرادفها في الحديث الآخر، وهي كلمة:
«أنسيتها».
ب ـ إن العقلانية السليمة، وشواهد الإيمان الحقة تقتضي استحالة أن يغير الرسول عليه
الصلاة والسلام أو يبدل في القرآن
شيئاً إلا إذا أمره الله بذلك، أو كان بإيحاء من الله تعالى كالنسخ، والله تعالى
يشهد على أمانة رسوله، إذ يقول على لسانه:{ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ
مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)} [يونس]
ج ـ إن نسيان
الرسول عليه الصلاة والسلام الوارد
في الحديث ليس نسيان تبليغ، وإنما هو نسيان غفلة، وغيبة، وتذكر. وهذا ما يتعرض
إليه البشر عادة، والرسول عليه الصلاة والسلام من البشر ينسى، ويغفل، ويغيب عليه الأمر أحياناً. فروايات
الحديث لا تعني أبداً أن الآيات القرآنية التي سمعها الرسول عليه الصلاة والسلام من الرجل الذي كان يقرؤها، لا تعني أنها قد
انمحت من ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما غاية ما عنته: أن تلك الآيات كانت غائبة عن ذهن الرسول عليه
الصلاة والسلام وكان لا يتذكرها في
تلك اللحظة، ثم ذكرها، وافتكرها بقراءة ذلك الرجل . ومن المعلوم أن غيبة الشيء،
وغفلة الذهن غير محوه. والدليل على ذلك أن الإنسان بطبعه ـ والرسول إنسان ـ قد
يغيب عنه النص أحياناً إذا اشتغل الذهن بغيره، وهو يدرك في نفس الوقت أن النص
مخزون في ذهنه سيستحضره إذا ما نبه إليه، وسيفتكره، وسيتذكره إذا ما ذكر به. أما
النسيان التام المرادف لانمحاء الشيء من الذاكرة، فهذا مستحيل على الرسول عليه
الصلاة والسلام وخاصة فيما يتعلق
بمهام التبليغ للرسالة، والبيان للقرآن. فنسيان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن نسيان تبليغ، أو نسيان بيان للقرآن
أبداً، فهو قد أبلغ ما نزل عليه من قرآن، وأطاع أمر الله في التبليغ.
د ـ إن نسيان الرسول عليه الصلاة والسلام الوارد في الحديث ليس نسيان ضياع، أو فقد،
وليس إسقاطاً للقرآن الكريم. والدليل على ذلك: أن ما نسيه الرسول عليه الصلاة
والسلام من آيات قرآنية كان
قد حفظها، وبلغها لأصحابه، وبينها لهم،فحفظوها ووعوها، وحفظوها في صدورهم،
وعقولهم، وقلوبهم، وكتبوها في سطورهم، وفي كتبهم، وفي مصاحفهم. وليس هناك ما يدل
على أنهم لم يبلغوها، أو لم يحفظوها، أو نسوها حتى يخاف عليها من الضياع،
والفقدان. والقرآن كله بآياته ، تعهدته العناية الإلهية بالحفظ من الضياع مصداق
قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [سورة الحجر آية 9].
* أهم المصادر والمراجع:
- صحيح البخاري:
الإمام البخاري.
- صحيح مسلم:
الإمام مسلم.
- تفسير ابن كثير:
الإمام ابن كثير.
- فتح الباري بشرح
صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني.