تمتع غير المسلمين - المقيمون في بلاد المسلمين – بسلسلة من الضمانات
التي منحها لهم المجتمع المسلم بهدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم .
ولسوف نعرض لأهم هذه الضمانات، ونوثقها بشهادة التاريخ ونصوص
الفقهاء، حراس الشريعة، ورثة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن هذه الضمانات:
أولاً : ضمان حرية المعتقد
يعتقد المسلمون أن دينهم هو الحق المبين، وأن ما عداه إنما هي ديانات
حُرفت ونُسخت بالإسلام أو ضلالات وقع فيها البشر جهلاً منهم بحقيقة الدين
والمعتقد.
وقد عمل المسلمون على استمالة الأمم والشعوب التي اختلطوا بها إلى
الإسلام، وذلك بما آتاهم الله من حجة ظاهرة وخلق قويم ودين ميسر تقبله الفطر ولا
تستغلق عن فهم مبادئه العقول.
ولم يعمد المسلمون طوال تاريخهم الحضاري العظيم إلى إجبار الشعوب أو
الأفراد الذين تحت ولايتهم، وذلك تطبيقاً لمجموعة من المبادئ الإسلامية التي رسخت
فيهم هذا السلوك:
أً. حتمية الخلاف وطبيعته
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت،
فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى
أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في
خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
واختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط
بحكمته، يقول الله: [لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة
ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً] (المائدة: 48).
قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار
ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".
وقال تعالى: [ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون
مختلفين # إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ] ( هود : 118– 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى
ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر
المعاصي".
وقال ابن كثيرعن قول الله [ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك] : "أي:
ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ..
قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير
مختلف"
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى
لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من
الاعتراف بالاختلاف.
ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس
أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون،
وأن واجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم. فإنما مهمتهم هي البلاغ
فحسب، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه صلى الله
عليه وسلم : [فإن تولوا فإنما عليك البلاغ[ (النحل: 82). وقال تعالى: [فإن أسلموا
فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد] (آل عمران: 20).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال
والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية
فإلينا".
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: [ فإنما عليك
البلاغ وعلينا الحساب] (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة،
ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، [وعلينا الحساب] أي:
محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك".
وقال تعالى: [فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر]
(الغاشية: 21-22).
ولذلك فإن المسلم لا يشعر بحالة الصراع مع شخص ذلك الذي تنكب الهداية
وأعرض عن أسبابها، فإنما حسابه على الله في يوم القيامة ، فقد قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: [ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ]
(البقرة: 272). وقال له وللأمة من بعده: [فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا
ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير] (الشورى: 15).
ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين
خلق الله آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته [ وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً [ (الإسراء: 61)،
وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: ] إني جاعل في الأرض خليفة]
(البقرة: 30).
ووفق هذه الغاية كرم الله الجنس البشري على سائر مخلوقات الله [ ولقد كرمنا
بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن
خلقنا تفضيلاً ] (الإسراء: 70).
وأكد نبينا صلى الله عليه وسلم وصحبه احترام النفس
الإنسانية ، ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين بالقادسية، فمروا
عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة فقالا: إن
النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة
يهودي؟! فقال: ((أليست نفساً)).
ومن تكريم الله للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به
بين الحق والباطل {وهديناه النجدين } (البلد: 10) ، وبموجبه وهبه الحرية
والإرادة الحرة لاختيار ما يشاء { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً }
(الإنسان: 3) { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس
حتى يكونوا مؤمنين } (يونس: 99).
وعليه فالإنسان يختار ما يشاء من المعتقد{ لا إكراه في الدين قد
تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256) ، والله يتولى في الآخرة حسابه {وقل الحق من
ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها}
(الكهف: 29).
قال ابن كثير : "أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين
الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على
الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته؛ دخل فيه على بينة،
ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً
مقسوراً".
و يقول تعالى: {قل الله أعبد مخلصاً له ديني * فاعبدوا ما شئتم
من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو
الخسران المبين} (الزمر: 14- 15)، ويقول: [وإن جادلوك فقل الله
أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون] (الحج:
68-69).
وقد امتثل سلفنا هدي الله، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن
ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق
قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: [ لا إكراه
في الدين] (البقرة: 256).
والإيمان ابتداء هو عمل قلبي، فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على
الإيمان، ولو نطق به كرهاً فإنه لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه، وعليه فالمكره
على الإسلام لا يصح إسلامه، ولا تلزمه أحكامه في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: "لم ينقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من
أهل الذمة على الإسلام ... وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي
والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛
مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار،
وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أكره على
ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر
والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى : [ لا إكراه في الدين ]
(البقرة: 256)".
وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام
من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه
ما يدل على إسلامه طوعاً".
وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه ترتون بالخبل
والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم
الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة 418هـ.
ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى
دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال: "رجل يكره على
الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها الدكتور ترتون بقوله: "وهذه
عبارة تنطوي على التسامح الجميل".
لقد فقه المسلمون هذا ووعوه، فتركوا لرعاياهم من غير المسلمين حرية
الاعتقاد وممارسة الشعائر التعبدية، ولم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً وكرهاً.
ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها
وإذا لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه يكون بذلك
قد ترك الناس على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة الآخرين لعباداتهم،
وضمان سلامة دور العبادة.
وهذا – بالفعل - ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي
دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل
نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم ، وأعطاهم على
ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت
أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير
أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته".
ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله
عليه وسلم ، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي
كتبها لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله
عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ،
ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم،
ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب
عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين ".
وبمثله كتب عمر لأهل اللُد.
وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم رضي الله عنه لأهل الرقة، ولأسقف
الرها.
وقد خاف عمر من انتقاض عهده من بعده فلم يصل في كنيسة القمامة حين
أتاها وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة. فقال له
البترك: صل موضعك. فامتنع عمر رضي الله عنه وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة
منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبترك: (لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي،
وقالوا: هنا صلى عمر).
وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا يؤذن عليها، ثم
قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها
يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته".
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها : "بسم الله الرحمن
الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم
وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد
الله وذمة رسول الله eوالخلفاء والمؤمنين".
وتضمن كتابه رضي الله عنه لأهل عانات عدم التعرض لهم في ممارسة
شعائرهم وإظهارها: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو
نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة
ولا بيت نار".
قال أبو الوليد الباجي: " إن أهل الذمة يقرون على دينهم ويكونون
من دينهم على ما كانوا عليه لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من
إظهاره في المحافل والأسواق".
وقال الفقهاء المسلمون بتأمين المسلمين لحقوق رعاياهم في العبادة،
فقرروا أنه "يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى
شرعاً من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: ((وأنتم يهود عليكم
خاصة ألا تعدوا في السبت)).
ويمتد أمان الذمي على ماله ، ولو كان خمراً أو خنزيراً ، وينقل
الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل
في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر
وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل
إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".
قال مالك: "إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم
الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان
من الإضرار بالمسلمين".
وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه العهود اعتبر المسلمون ذلك ظلماً،
وأمر أئمة العدل بإزالته وإبطاله، ومنه أن الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة
يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما
ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في
المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم، فرضوا.
كما شكا النصارى إلى عمر بن عبد العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق
كان بعض أمراء بني أمية أقطعها لبني نصر، فردها إليهم.
ومن أمارات تسامح المسلمين مع غيرهم أنهم لم يتدخلوا في الشؤون
التفصيلية لهم ، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين وإن طلبوا منهم الانصياع
للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.
وينقل العيني عن الزهري قوله: "مضت السنة أن يرد أهل الذمة في
حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم
بينهم بكتاب الله تعالى".
كما ينقل عن ابن القاسم: " إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم
المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره
ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم
يحكم بينهما".
وقد بين المرداوي المراد من التزام الأحكام الإسلامية فقال: "لا
يجوز عقد الذمة إلا بشرطين : بذل الجزية والتزام أحكام الملة من جريان أحكام
المسلمين عليهم .. يلزم أن يأخذوهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض
وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه".
شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم
وإن خير شاهد على التزام المسلمين بهذه المبادئ، تلك الشهادات
التاريخية المتتابعة التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن تسامي المسلمين عن إجبار
أحد - ممن تحت سلطانهم – في الدخول في الإسلام.
يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون
واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها
نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر
دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم".
ويقول: "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب
الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم
وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً،
والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين ..
وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من
الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء
الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين".
يقول توماس آرنولد : "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير
المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين
المسيحي".
وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه
"تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم
وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم،
تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".
وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في كتابه "رحلة دينية في
الشرق" قوله: "ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين
التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد
عليهم بالقوة".
وينقل ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" شهادة
البطريك " عيشو يابه " الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657هـ:" إن
العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا
بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون
إلى كنائسنا وأديرتنا ".
ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال
الكنيسة" متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا
استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى
أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى
القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة
فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة
التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى
وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر
إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".
ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة
إلى الإسلام": " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح
عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع
أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة
حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد
على هذا التسامح ".
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : " العرب لم يفرضوا
على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين
لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق
يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم
وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل
تلك الأعمال؟ ومتى؟".
يقول المـؤرخ الإسباني أولاغي: "فخلال النصف الأول من
القرن التـاسع كـانت أقـلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية
كاملة".
يقـول القس إيِلُوج : "نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ
مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا".
بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض الحوادث الغريبة المشينة في
تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه الزاعمون المفترون على الإسلام، تقول
المؤرخة زيغرد: "لقد عسّر المنتصرون على الشعوب المغلوبة دخول الإسلام حتى لا
يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم يدخل في الإسلام".
ويبين لنا توماس أرنولد أن خراج مصر كان على عهد عثمان اثنا عشر
مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة ملايين، ومثله كان في خراسان، فلم
يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، ولهذا السبب عزل عمر بن عبد
العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ، وكتب: "إن الله بعث
محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً".[41]
إذا كان الحال كما عرفنا، فما السر في تقبل الشعوب للإسلام وإقبالها
عليه؟
وينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ
الإسلام" قوله: "إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى
إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم
السابقة ".
ويقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" : " إن
القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في
أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛
فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله،
ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".
ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان
من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم
ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً
سمحاً مثل دينهم".
ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح
الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ
معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ
الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى
مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف
عنهم بؤس الحياة ومتاعبها".
ويقول روبرتسون في كتابه "تاريخ شارلكن": "لكنا لا
نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم
يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما
أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب ".
ويقول آدم متز: "ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد
خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي
نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون
يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر
أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر
المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به".
ويقول أيضاً: "أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن
النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في
مسائل القتل".
لكن الخربوطلي ينقل عن الدكتور فيليب في كتابه "تاريخ
العرب" حديثه عن رغبة أهل الذمة في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، واستئذانهم
للسلطات الدينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرره الإسلام.
ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة
أمر الله في القرآن الكريم المسلمين ببر مخالفيهم في الدين، الذين لم
يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في
الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين]
(الممتحنة: 8).
قال الطبري: "عنى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في
الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم .. وقوله: { إن الله يحب
المقسطين } يقول : إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق
والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم".
والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع
الوالدين ، وقد وضحه رسول الله eبقوله : (( البر حسن الخلق )).
قال القرافي وهو يعدد صوراً للبر أمر بها المسلم تجاه أهل الذمة:
" ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال
إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً ،
والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم،
وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم .. وكل خير يحسُن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله،
ومن العدو أن يفعله مع عدوه، فإن ذلك من مكارم الأخلاق .. نعاملهم – بعد ذلك بما
تقدم ذكره - امتثالاً لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد تجلى حسن الخلق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من
تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.
فقد أوجب الإسلام حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ،
فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك،
فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: [وإن جاهداك على أن تشرك
بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً] (لقمان: 15).
قال ابن كثير: " إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما
على دينهما؛ فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا [معروفاً] أي محسناً
إليهما".
وقد جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها
الرحمة المهداة : (( صِلِي أُمَّك)).
قال الخطابي: "فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما
توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة؛ وإن كان الولد
مسلماً".
قال محمد بن الحسن: "يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين
لقوله تعالى: [وصاحبهما في الدنيا معروفا ] (لقمان: 15)، وليس من المصاحبة
بالمعروف أن يتقلب في نعم الله، ويدعهما يموتان جوعاً، والنوازل والأجداد والجدات
من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك، استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة
استحقاق الأبوين"
وفي مثل آخر لصلة الرحم – وإن كانت كافرة - يقول عبد الله بن مروان:
قلت لمجاهد: إن لي قرابة مشركة، ولي عليه دين، أفأتركه له؟ قال: نعم. وصِله.
ويمتد البر وصلة الرحم بالمسلم حتى تبلغ الرحم البعيدة التي مرت
عليها المئات من السنين، فها هو صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بأهل
مصر خيراً ، براً وصلة لرحم قديمة تعود إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث قال
صلى الله عليه وسلم : ((إنكم ستفتحون مصر .. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى
أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً)).
قال النووي: " وأما الذمة فهي الحرمة والحق , وهي هنا بمعنى
الذمام ، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم".
ومن البر وصلة الأرحام عيادة المريض ، فقد عاد النبي صلى الله
عليه وسلم عمه أبا طالب في مرضه، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه،
فقعد عند رأسه.
ومن صور البر التي تهدف إلى كسب القلوب واستلال الشحناء؛ الهدية، وقد
أهدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخالفيه في الدين، من ذلك ما رواه
ابن زنجويه أن رسول الله أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه
يستهديه أدماً، فأهدى إليه أبو سفيان.
وقبِل صلى الله عليه وسلم في خيبر هدية زينب بنت الحارث
اليهودية، لكنها هدية غدر لا مودة، فقد أهدت له شاة مشوية دست له فيها السم.
وفي مرة أخرى دعا يهودي النبي صلى الله عليه وسلم إلى
خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه صلى الله عليه وسلم .
كما قبِل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا الملوك إليه،
فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى.
يتبع...