(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ
وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)
[سبأ:18-19].
إن مواطن الضعف في طبيعة الإنسان أن إذا استمرت به الحال واحدة من النعمة
والراحة والخير: يملّلها ويسأمها – رغم ما تحمل من لذة وراحة ورفاهية- ويريد
التغيير والتبديل مهما كلفه من ثمن باهظ وجرّ إليه من البلاء والمحن. هذا هو الحال
الذي أشار إليه القرآن الكريم بلفظة: (بطرت) في قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا
مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) [القصص:58].
وهذه هي قصة سبأ التي أنعم الله عليها بكل الخيرات وعبّد طرقها وملأها
أمناً وراحة: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ
وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فكفروا بهذه النعمة ولم يقدروها حق قدرها: (فَقَالُوا
رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) [سبأ:19].
ليس هذا من السفر في شيء ! نخرج ونأكل ونشرب ، ونتحدث وإذا بنا نصل إلى
منزلنا ، بل لابد أن يكون السفر طويلاً وفيه من التعب والمشقة ما فيه، فكما أن سلب
الله تعالى منهم نعمهم وخيراتهم وجعلهم أحاديث ومزّقهم كل ممزق. قال تعالى:
(فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ:19].
إنني أشعر في كثير من البلاد العربية والإسلامية والمجتمعات الإسلامية
بوجود هذا المرض (البطر) فحيثما تلفّت تسمع هاتفاً بـ (هل من مزيد ؟ وهل من جديد؟)
وليس من هاتف أخطر ممن يقول: هل من جديد ؟ ومهما كانت الأوضاع والظروف ، فإن أحب
هاتف إلى الناس من يقول: عاشت الثورة. وليست هذه الهتافات إلا بمثابة أخطار
وابتلاءات تحيق بشعب أو بلاد، فلا يبقى أي تمييز بين الصالح والطالح والأمن
والفساد، والنصح والغش ، ولا يبقى أي تفكير في العواقب والنتائج ، إن هذا المنهج
من التفكير ، وهذه النفسية المتقلبة التي لا تستقر على حال مصدر خطر كبير ، وقد
يؤدي إلى مصير قوم سبأ من الدمار والهلاك. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ
* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم:28].
المقال: كلمة ألقاها سماحة العلامة أبو الحسن الندوي ، في اليمن في صنعاء
في شعبان سنة 1404هـ.