للاستدراك
مخفّفة ومثقّلة، وحقيقته رفع مفهوم الكلام السابق، تقول: (ما زيد شجاع ولكنّه غير
كريم)، فرفعت بـ (لكن) ما أفهمه الوصف بالشجاعة من ثبوت الكرم له، لكونهما
كالمتضايفين؛ فإن رفعنا ما أفاده منطوق الكلام السابق فذاك استثناء؛ وموقع
الاستدراك بين متنافيين بوجه ما؛ فلا يجوز وقوعها بين متوافقين، وقوله تعالى:
﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ﴾ [الأنفال:43]، لكونه جاء في
سياق (لو)، (ولو) تدلّ على امتناع الشيء لامتناع غيره؛ فدل على أن الرؤية ممتنعة
في المعنى؛ فلما قيل: ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ
سَلَّمَ﴾
علم إثبات ما فهم إثباته أولاً وهو سبب التسليم؛ وهو نفي الرؤية، فعلم أن المعنى:
ولكن الله ما أراكهم كثيراً ليسلّمكم، فحذف السبب، وأقيم المسبب مقامه.
قال
ابن الحاجب: الفرق بين (بل) و(لكن)؛ وإن اتفقا في أنّ الحكم للثاني؛ أنّ (لكن)
وضعها على مخالفة ما بعدهما لما قبلهما، ولا يستقيم تقديره إلا مثبتاً لامتناع
تقدير النفي في المفرد؛ وإذا كان مثبتاً، وجب أن يكون ما قبله نفياً، كقولك: (ما
جاءني زيد لكن عمرو)؛ ولو قلت: (جاءني زيد لكن عمرو)، لم يجز لما ذكرنا. وأما
(بلْ) فللإضراب مطلقاً، موجباً كان الأول أو منفيّاً.
وإذا
ثقّلت، فهي من أخوات (إنّ) تنصب الاسم وترفع الخبر؛ ولا يليها الفعل.
وأما
وقوع المرفوع بعدها في قوله تعالى: ﴿لَّكِنَّا
هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ [الكهف:38]، و(هو) ضمير الرفع، فجوابه أنها هنا ليست المثقّلة بل
هي المخفّفة؛ والتقدير: لكن أنا هو الله ربّي؛ ولهذا تكتب في المصاحف بالألف،
ويوقف عليها بها؛ إلا أنهم ألْقوا حركة الهمزة على النون؛ فالتقت النونان، فأدغمت
الأولى في الثانية، وموضع (أنا) رفع بالابتداء، وهو مبدأ ثانٍ و(الله) مبتدأ ثالث،
و(ربّي) خبر المبتدأ الثالث، والمبتدأ الثالث وخبره خبر الثاني، والثاني هو خبر
الأول، والراجع إلى الأول الياء.
ثم
المخفّفة قد تكون مخفّفة من الثقيلة، فهي عاملة، وقد تكون غير عاملة، فيقع بعدها
المفرد، نحو: (ما قام زيد لكنْ عمرو)، فتكون عاطفة على الصحيح، وإن وقع بعدها جملة
كانت حرف ابتداء.
وقال
صاحب (البسيط): إذا وقع بعدها جملة؛ فهل هي للعطف، أو حرف ابتداء. قولان؛ كقوله
تعالى: ﴿لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ﴾ [النساء:166].
قال:
ونظير فائدة الخلاف في جواز الوقف على ما قبلها؛ فعلى العطف لا يجوز، وعلى كونها
حرف ابتداء يجوز.
قال:
وإذا دخل عليها الواو انتقل العطف إليها، وتجرّدت للاستدراك.
وقال
الكسائيّ: المختار عند العرب تشديد النون إذا اقترنت بالواو، وتخفيفها إذا لم
تقترن بها؛ وعلى هذا جاء أكثر القرآن العزيز، كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:33]،
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:131]،
﴿لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ﴾، ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ﴾ [التوبة:88]، ﴿لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْاْ﴾ [آل عمران:198]، ﴿لَكِنِ
الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ [مريم:38].
وعلّل
الفراء ذلك بأنها مخفّفة تكون عاطفة فلا تحتاج إلى واو معها كـ (بل)، فإذا كان
قبلها واو لم تشبه (بل)، لأن (بل) لا تدخل عليها الواو، وأما إذا كانت مشدّدة،
فإنّها تعمل عمل (إن) ولا تكون عاطفة.
وقد
اختلف القرّاء في ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّه﴾ [الأحزاب:40]،
فأكثرهم على تخفيفها ونصب (رسول) بإضمار (كان) أو بالعطف على (أبا أحد). والأوّل أليق، لكن
ليست عاطفة لأجل الواو، فالأليق لها أن تدخل على الجمل كـ (بل) العاطفة.
وقرأ
أبو عمرو بتشديدها على أنها عاملة، وحذف خبرها؛ أي: ولكن رسول الله r هو، أي: محمد.
* أهم المصادر والمراجع:
- معجم
الأدوات: راجي الأسمر.
- وانظر: لسان العرب: الإمام ابن منظور.
- وانظر: الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي.
- وانظر: معجم حروف المعاني: محمد حسن الشريف.
- وانظر: جواهر الأدب: أحمد الهاشمي.
- وانظر: معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم: إسماعيل عمايرة
وعبدالحميد السيد