الحمد لله على نعمة التفكير والتدبير في شؤون
خلقه، الحمد لله على نعمة العقل وعلى نعم كثيرة تعددت واختلفت، وصلى الله وسلم
وبارك على سيدنا محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم
الدين.
إن من أوائل أسماء الله الحسنى وصفاته صفة "
الرحمة " فوصف الله جلّ وعلا نفسه بالرحمن والرحيم، كما خصّ إحدى سور كتابه
العزيز وهي عروس القرآن باسم" الرحمـن" لتبتدئ بقوله سبحانه: (الرحمـن،
علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان) وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ: (هو الله الذي
لا اله إلا هو، عالم الغيب والشهادة،هو الرحمان الرحيم)
وإذا وصف الله نفسه سبحانه بصفة
"الرحمة" فلأن هذه الصفة لها معاني جليلة رفيعة فهي تعني عند بني البشر
الانفعال الخاص الذي يعرض على القلب عند مشاهدة النقص أو الحاجة، فيندفع المتصف
بهذه الصفة اندفاعا نحو رفع ذلك النقص أو الحاجة. وإذا أطلقت هذه الكلمة على الله
سبحانه أريد بها العطاء والإفاضة لرفع الحاجة.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن صفة
"الرحمـن" هو ذو الرحمة الشاملة والتي عمّ بها المولى سبحانه المؤمنين
والكافرين والمحسنين والمسيئين، وكل موجود في هذه الحياة الدنيا، بينما صفة "
الرحيم" هو ذو الرحمة الدائمة، وذلك ما يختص بالمؤمنين وحدهم. ومن هنا قسّموا
الرحمة إلى رحمة "رحمانية" تعم الجميع ورحمة "رحيمية" تختص
بالمؤمنين فقط. ولعلنا نجد في بعض الآيات تلميحا إلى هذه الحقيقة عند قوله تعالى:
(وكان بالمؤمنين رحيما) وقوله جلّ وعلا (إنّه بهم رؤوف رحيم) وقوله تعالى في موضع
آخر:( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمـن مدّا) وقوله (الرحمـن على العرش
استوى)
وما نود تسليط الضوء عليه في هذا البحث هو إقامة
مقاربة بينة أقامها صلى الله عليه وسلم في باب الرحمة يظهر بها مقدارية وعلو وسمو
هذه الصفة عند الله اتجاه عباده وذلك حين قدم على النبي (صلى الله عليه وسلم)
بسبي، فإذا في السبي امرأة تطوف وهي في حالة ذهول، تبحث عن فلذة كبدها تبحث عن
رضيعها، وكان هذا التطواف منها بمرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعض من صحابته،
فما هو إلا أن وجدت ولدها ذاك فلتزمته، وألصقته بصدرها، وألقمته ثديها تطعمه
وتضمه، فنظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى عاطفة الأمومة ورحمة الأم وتعجب
الصحابة من ذلك فسألهم: أترون هذه المرأة ملقية ولدها في النار؟ قالوا : لا يا
رسول الله، فقال: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها".
فهذا الحديث يصور لنا مشهدا في غاية الرقة
والرحمة والحنان بين أم فاقدة لرضيع لها وهي في حالة ذعر وحزن تبحث وما إن وجدت
ولدها بين السبي إلا وتحولت كلها حنان ورحمة وشفقة ودموع تنهمر على الخدود،
والصحابة ونبي الرحمة ينظرون إليها وقد رقّت مشاعرهم أمام هذا المشهد حينها اخبرهم
البشير عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من رحمة هذه الأم
برضيعها.
فالأمومة هي عاطفة ركزت في الأنثى السوية تدفعها
إلى بذل المزيد من الرحمة والشفقة والعطف والحنان، لذلك أوصى القرآن الكريم والنبي
العظيم بالأم لفضلها ومكانتها التي ميّزتها عن الأب بالحمل والرضاع والرعاية.
|
صورة لأنثى البط وحولها فراخها
|
قال الشاعر أبو القاسم الشابي عن الأم:
الأمُّ تلثـم طفلـها وتضُـمُّـهُ حَرَمٌ سمــاويّ
ُ الجمــالِ مُقـدَّسُ
وإذا ما فتحنا وجه المقارنة والمقاربة بين رحمة
الله التي تجاوزت كل حد وتسامت وبين رحمة الأم برضيعها، هذه المقاربة التي أقامها
رسول الله في حديثه مع الصحابة، لا يسعنا إلا أن نتوسع ونغوص في تجليات هذه
المقارنة/المقاربة التي نعيشها بيننا كلما وقعت أعيننا على أم ترضع طفلها وحين
يهفو فؤادها توجعا وهي تسمع صراخ مولودها.
ولتجليات هذه الرحمة الأرضية المعاشة أوجه عديدة
كان أنبلها وأصدقها وأسماها رحمة الأم، لكن هل هذه الرحمة دائمة وشاملة؟
هذا السؤال نطرحه حين نتذكر حالات استثنائية
لأمهات لم يرغبن في الإنجاب وسعين جاهدات لإجهاض ما في أرحامهن من أجنة، أو لحالات
من الأمهات اضطررن إلى التخلي عن فلذات أكبادهن بدور الأيتام أو على الطرقات إن
كان أمر الاحتفاظ بأولادهن يقتضي تهديدا صريحا لحياتهن أو لسمعتهن.
لكن أين وجه الرحمة في هذه الحالات؟
إذا عدنا إلى الصورة التشبيهية التي طرحها رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) وبحثنا عن أوجه الاقتراب بين رحمة الله ورحمة الأم سنجد
الصورة لا تحمل تناقضات فالأم المنعوت بها هنا هي أم مرضعة، ومقدار الرحمة عند
الأم يسمو ويزداد في حالة الرضاع، فالأم في هذه المرحلة تكون في أكثر حالات
الإشفاق والرحمة وتخرج عن إحساسات وقدرات الأم العادية وعن طبيعة المرأة.
تكون الأم المرضعة في استعداد فطري جبله الله في
قلبها بقيمة مضافة ترتفع عن القدر العادي، إذ تستجيب تلقائيا مثلا لصراخ الرضيع ويتجلى
هذا المشهد من كمية ذر الحليب التي يتزايد تلقائيا عند سماع صراخ الوليد ليصل في
بعض الأحيان إلى الاندفاع والخروج من الحلمة قبل أن يضع الرضيع فمه على الثدي، فلا
يكون للأم مدخلة في ذر الحليب اللهم ذاك الإحساس الدفين والسلوك الطبيعي التي زرعه
الله فيها نحو رضيعها.
لنقدم صورة شاهدة نراها على الدوام تتمثل في أم
تحتضن طفلها وهو في حالة الصراخ الناتج عن الجوع، نلاحظ أن الأم المرضعة تسارع
وبكل لهفة وحنان كي تخرج ثديها وتمد الحلمة نحو فم رضيعها وكثيرا ما نلاحظ تدفق
الحليب بدفعات قوية قبل عملية الإرضاع.
أليست هذه صورة حقيقية تمثل أبهى وأسمى آيات
الرحمة المتجلية بين الأم ورضيعها؟
هناك صورة أخرى أكثر تجلي وشرح وتقريب لصورة
الرحمة التي أبى رسول الله إلا أن يضرب بها مثل المقاربة /المقارنة، تتمثل في
بدايات مرحلة الرضاع عند الأم ونحن نعلم جميعا أن الأم في أيامها الأولى بعد الوضع
وفي الساعات الأولى لتكوُنِ الحليب تعاني الأم آلاما شديدة في الرحم والثدي ما
يجعل أمر الإرضاع صعب ومؤلم، غير أن هذه الآلام لا تثني المرضعة عن إرضاع وليدها
بل وتجدها تتحمل الألم بمرارة، غير أن دافع الرحمة المدفون في قلبها يكون لها
المحرك والدافع وراء هذا العطاء وبجرعات زائدة في قلبها فنراها تمد حلمة ثديها إلى
فم رضيعها وتصطبر على الألم الذي يزداد بعد عملية مص الرضيع للحلمة إلى درجة أن
الأم تتصبب عرقا ويجف حلقها .
وأوج درجات الرحمة تكون وتتمثل حين يطلب من الأم
بعد ذلك الألم والمعاناة أن تبعد رضيعها عنها أو أن تزيل عنه الثدي أو ما شابه
ذلك. أليس هذا التجلي يمثل قمة الرحمة على وجه الأرض؟
وقد قدم لنا القرآن صورة فريدة ومتميزة عن رحمة
الأم المرضعة بوليدها وردت في سورة القصص عن قصة أم موسى حين أوحى إليها ربها أن
تلقي رضيعها في اليم يقول تعالى: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه
فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين )
وقوله سبحانه في نفس السورة : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا، إن كادت لتبدي به لولا
أن رّبطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ) انظروا إلى هذه الآية واحتوائها على
التصوير الصحيح والحقيقي لما تحس به الأم اتجاه رضيعها وفيه أيضا تتمثل رحمة الأم
بولدها تلك الرحمة التي تمثل جزءا يسيرا من رحمة الله بعباده لكنها – رحمة الأم-
تظل هي قمة وأكبر مقدار للرحمة على وجه البسيطة. وفي نفس السورة يقص علينا ربنا
أمر أم موسى فيقول: ( وحرّمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت
يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أنّ
وعد الله حقًّ ولكن أكثرهم لا يعلمون.)
كما ورد في الأحاديث النبوية قصة سردها رسول الله
على صحابته كانت لهم مدرسة عظة وإرشاد غير أنها تمثل بالنسبة لنا وفي موضعنا هنا
إثباتا كبيرا على طرحنا لفرضية أن رحمة الأم برضيعها هي امثل وأعلى مقدار للرحمة
الأرضية إنها قصة ماشطة بنت فرعون والتي ثبتت على وحدانية الله وعلى إيمانها في
وجه فرعون رغم تنكيله بها وزج أبنائها الخمسة في زيت مقلي كما أوردت الروايات
وأمام ناظريها لكن المثير في الحكاية هي معجزة إنطاق الله سبحانه لرضيعها الذي
تكلم ليقول :(يــا أمــاه اصـبـري فانـك على الحـــق ) .
وان تساءلنا عن سبب إنطاق الله تعالى لهذا الرضيع
سنجد ولا محالة من أجل تثبيت فؤاد الأم الذي استطاعت الصبر والثبات أمام رؤيتها
لأطفالها الأربعة يلقون في الزيت المقلي أمام أعينها لكن وبسبب إحساس يفوق قدرتها
يعلم الله ما زرع مقدرا للرحمة بداخل قلبها لم تستطع الأم الاصطبار على الرضيع
وربما كانت ستهفو وتضعف لذلك ثبت فؤادها بنطق وليدها قبل الأوان وكي لا يحمِّلها
ما لا طاقة لها به ومن اجل إثبات معجزاته الكونية أمام أنظار فرعون. إنها والله
لصورة حقة تثبت مدى رحمة الأم برضيعها وتذكرنا بأن رحمة الله أعظم وأكبر وأسمى من
هذا المقدار.
فما أعظم رحمة الله يغمرنا بها أحياء وأموات على
الأرض وتحت الأرض ويوم العرض مذنبين كنا أو تائبين فما أجدر بنا أمام هذا الرحيم
الرحمـن الذي ثبّت رحمته على المؤمنين دون شك أو نقصان من أن نستغفره ونثوب إليه
عن طواعية ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك
على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني
غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك
بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).
* المصدر:
- موقع موسوعة الإعجاز العلمي.