يقولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73].
قالوا: إزعاجُ الذبابِ، وإيذاؤه، وما يُسبِّبُه من أمراضٍ قد صرفَ الأنظارَ عن التأمُّلِ في هذه الحشرةِ، التي تُعَدُّ أعجوبةً في الخلقِ الإلهيِّ.
لقد ضربَ اللهُ سبحانه وتعالى للناس الذبابةَ مثلاً، هذا المخلوقُ الضعيفُ المستقذرُ، الذي يتكاثرُ بسرعةٍ جنونيةٍ، والذي يبدو ضعيفاً، لو أنك رششتَ مكاناً موبوءاً بالذبابِ، وقضيتَ على كلِّ الذبابِ إلا ذبابةً واحدةً؛ لأنتجتْ هذه الذبابةُ جيلاً من الذبابِ يقاوم هذه المادّةَ التي رشَشْتَها في هذا المكانِ، فتصنيعُ المضادّاتِ الحيويةِ عند الذبابِ شيءٌ معجزٌ، فأيُّ شيء يقضي على الذباب تصنِّع الذبابةُ في أجهزتِها الدقيقةِ مضاداً حيويّاً يُكسِبُها مناعةً ضد هذه المادّةِ الفعّالةِ، حتى إنّ الذبابَ إذا ماتَ في البرد ينجبُ جيلاً يقاومُ البردَ.
كُبِّرَتْ عينُ الذبابةِ مئاتِ المراتِ، فكان من هذا التكبيرِ العجبُ العجابُ، آلافُ العدسات المرصوفة بعضُها إلى جانب بعض تحقِّقُ للذبابةِ رؤيةً كاملةً، فهذا المخلوق الصعبُ الذي يشمئزّ ألباسُ منه يستطيع أن تُبَاورَ مباورةً لا تستطيعُ أعظمُ الطائراتِ الحربيةِ وأحدثُها أنْ تفعلَ فعْلَها، إنها تسيرُ بسرعةٍ فائقةٍ بالنسبةِ إلى حجمِها، وتستطيعُ أنْ تنتقلَ فجأةً إلى زاويةٍ قائمةٍ، وتستطيعُ أنْ تنتقل من سقفٍ إلى سقفٍ، وهذا شيءٌ لا تستطيعُ طائرةٌ في الأرض أنْ تفعلَه، قال تعالى: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.
أما الذي يلفت النظر فحديثُ سيِّدِ البشر، فعنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعَ الذُّبابُ في شراب أحدكمْ فلْيغمسهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فإنَّ في إحدى جناحيهِ داءً والأخرى شفاءً».
وفي روايةٍ: «فأمقِلُوهُ»، أي: اغمسوه.
أكَّدَ العلمُ الحديثُ صحّةَ هذا الحديثِ، فقد كُشفَ أنّ في بعض جناحي الذبابةِ مادةً ترياقيةً للجراثيم، ولأنواع الميكروبات، فإذا عِلقَ بأرجلِ الذبابةِ بعضُ الجراثيمِ، أو الميكروباتِ، أو البكترياتِ الضارّةِ، ووقعَ هذا الذبابُ في سائلٍ، فعليكَ أنْ تغمسَ الجناحَ الثانيَ، فإنَ في بعض الأجنحةِ الدواءَ الترياقَ المضادةَّ لهذه الجراثيمِ، قال تعالى: ﴿4قفيَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.
من وظائفِ هذه الحشرةِ أنها تُنَقِّي الهواءَ بقضائِها على النباتات والعضوياتِ المتفسِّخةِ، ولكنّ الذبابةَ الواحدةَ تحملُ في طيَّاتِها ما يزيدُ على خمسمئةِ مليونِ جرثومٍ، ووجودُ الذبابِ في مكانٍ ما مؤشِّر على أنَّ هذا المكانَ ليس نظيفاً، فكأنّها
رادعٌ قويٌ كي نُنَظِّفَ أَفْنِيَتَنَا كما وجَّهنا النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ.
إنها سريعةُ التنقُّلِ، بينما هي على مائدتِك إذا هي في يومٍ ثانٍ في مكانٍ تزيدُ مسافتُه على عشرة كيلومتراتٍ، وتنجبُ جيلاً كاملاً كلَّ عشرةِ أيامٍ، توالدُها عجيبٌ.
أمّا الشيءُ الذي لا يكاد يُصدَّقُ فهو أنّ جُملَتَها العصبيّةَ تشبهُ الجملةَ العصبيةَ عند الإنسانِ، وعينُ الذبابةِ غايةٌ في القوّةِ، وغايةٌ في قوّةِ الإبصارِ، ولها إدراكٌ عالي المستوى، وقد تتصرَّفُ بغضبٍ شديدٍ إذا ما لاح خطرٌ، فهي تغضبُ، وتتعلّمُ، وتحسُّ بالألمِ، ووزنُ دماغِها واحدٌ من مليونِ جزءٍ من الغرامِ، وهو يعملُ بأعلى كفايةٍ، وفي الذبابة جُمْلَةٌ من الغُدَد، ولها ذاكرةٌ تستمرُّ دقيقتين.
والذبابُ أنواعٌ منوَّعةٌ تزيدُ على مئات ألوفِ ألوفِ، منه ذبابٌ مفترسٌ، ونوعٌ كالنحلةِ يمتصُّ الرحيقَ، ونوعٌ يُخَمِّرُ الفاكهةَ، ونوعٌ ينافسُ الطائراتِ في مناورَتِها، وفي سرعتَها، وتستطيعُ أنْ تُضلِّلَ مُطاردَها، وتسخرَ منه.
فإذا كان الخلقُ جميعاً في أرقى عصورهم العلميّة: ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.
كيف عرف الحديثُ النبويُّ هذه الحقيقةَ، من أين عرفها؟ أكان هناك تحليلٌ عنده؟ أكان هناك معاملُ للتحليل؟ أكان هناك ميكروسكوبات؟ كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعَ الذُّبابُ في شرابِ أحدكمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثمَّ لِينزعهُ؛ فإنَّ في إحدى جناحيهِ داءً، والأُخرى شفاءً»، وكيف أنّ العلمَ الحديثَ أثبتَ ذلك؟.
إنْ هو إلا وحيٌ يوحى، وإنَ السنةَ المطهرةَ، بل إنَ ما تواترَ من السنةِ المطهرةِ قطعيُّ الثبوتِ، ومنه ما هو قطعيُّ الدلالةِ، ومن أنكرَهُ فقد كفرَ.
دقِّقوا في آيات اللهِ التي بثَّها في الكون، ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101].
قال ابنُ القيِّم في «الطب النبويِّ» معلَّقاً على حديث: إذا وقعَ الذُبابُ في شراب أحدكم...: «هذا الحديثُ فيه أمرانِ، أمرٌ فقهي، وأمرٌ طبيٌّ... وأما المعنى الطبِّي- أي في الحديث- فقال أبو عبيد: معنى امقِلوه: اغْمسوه، ليخرجَ الشفاءُ منه كما خرجَ الداءُ... واعلمْ أنّ في الذباب قوةً سُمِّيةً يدلُّ عليها الورمُ والحكّةُ العارضةُ عن لسع، وهي بمنزلةِ السلاحِ، فإذا سقطَ فيما يؤذيه اتّقاهُ بسلاحه، فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقابلَ تلك السّمِّية بما أودعَه الله سبحانه في جناجه الآخرِ من الشفاءِ، فيُغمسُ كلُّه في الماءِ والطعام، فتُقابل المدةُ السمّيةُ المادّةَ النافعةَ فيزولُ ضررُها، وهذا طبٌّ لا يهتدي إليه كبارُ الأطباء، وأئمتُهم، بل هو خارجٌ من مشكاةِ النبوةِ، ومع هذا فالطبيبُ العالمُ العارفُ الموفَّقُ يخضعُ لهذا العلاجِ، ويقرُّ لمن جاءَ به بأنه أكملُ الخلقِ على الإطلاقِ، وأنه مُؤَيَّدٌ بوحيٍ إلهيٍّ خارجٍ عن القُوى البشريةِ.
* * *
* أهم المصادر والمراجع:
- آيات الله في الآفاق: د. محمد راتب النابلسي.